د محمد عمارة يتحدث عن: موقف الإسلاميين من الغرب وأسباب ظاهرة الإسلاموفوبيا ..

مرحبا بك نشكرك على زيارتك ويهمنا ان تعطينا رايك في ما يعرض في هذه المدونة

نظرية النظم وعلاقتها باللفظ والمعنى عند عبد القاهر الجرجاني


 نظرية النظم وعلاقتها باللفظ والمعنى عند عبد القاهر الجرجاني:

لقد اهتم عبد القاهر الجرجاني بنظرية النظم القائمة على حسن الصياغة و توخي معاني النحو، و التي تنظر إلى العلاقة التي تنشأ بين اللفظ و المعنى من وجهة لغوية دقيقة نتيجة التحامها و شدة ارتباطها. حيث  نظر إليهما نظرة المتفحص العارف بمقادير الكلام، لذلك عرف قيمة اللفظ في النظم، و عرف طريقة تصوير المعاني على حقيقتها، ثم جمع بين اللفظ و المعنى، و سوى بين خصائصهما، و رأى اللفظ جسدا و المعنى روحا يعتمد على حسن الصياغة و دقة التصوير التي نضجت في بحوثه، و بهذه الطريقة انتهى من فكرة الفصل بين اللفظ و المعنى.
المحور الأول: اللفظ والمعنى عند عبد القاهر الجرجاني:
1- مكانة اللفظ عند عبد القاهر
 إن نظرية النظم ترفض الفصل بين اللفظ و المعنى، و ذلك بتوضيح طريقة علمية قائمة على الدمج بين كلا المكونين ، بقوله:" الكلم على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ و حده و ذلك إذا…و ضرب آخر لا تصل أنت منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، و لكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة. ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض."
إذن يمكن القول إن الألفاظ لا تتفاوت من حيث هي ألفظ مجردة، و لا من حيث هي كلم مفرد، و أنها تكون لها المزية في ملاءمة اللفظة لمعنى التي تليها، و هذا ما يجعل اللفظة فصيحة في موضع و غير فصيحة في موضع آخر، و بذلك لا يمكن تعيين ألفظ بذاتها تكون ذات جمالية في جميع المستويات:" فإنا نرى اللفظة تكون في غاية الفصاحة في موضع و نراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع و ليس فيها من الفصاحة قليل و لا كثير".
و لهذا ينكر عبد القاهر الجرجاني أن تكون الفصاحة صفة للفظ من حيث هو لفظ مفرد. بقوله:" لا تخلو الفصاحة من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تدرك بالسمع، أو تكون صفة فيه معقولة تعرف بالقلب، فمحال أن تكون صفة في اللفظ محسوسة؛ لأنها لو كانت كذلك لكن ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحا، و إذا بطل أن تكون محسوسة وجب الحكم ضرورة بأنها صفة معقولة، و إذا وجب الحكم بكونها صفة معقولة فإنا لا نعرف للفظ صفة يكون طريق معرفتها النقل دون الحس إلى دلالته على معناه." و نجد أن عبد القهر وصف بعض الكتاب بالجهلة، لأنهم قالوا بفصاحة اللفظ المفرد. بقوله:" ذلك محال من حيث يعلم كل عاقل أنه لا يكنى على اللفظ، و إنما يكنى بالمعنى على المعنى، و كذلك يعلم أنه لا يستعار اللفظ مجردا عن المعنى،    و لكن يستعار، المعنى ثم اللفظ يكون تبعا للمعنى".
إن اللفظ يستحسن إدا استحق المزية و الشرف، ضمن شروط معلومة داخل التعبير، و أهمها حسن تلاؤم حالات اللفظة مع حالات الألفاظ المجاورة لها في النظم، ثم حسب ترتيب المعاني في النفس، و تناسق دلالتها و تلاقي معانيها على الوجه الذي يرتضيه العقل مع اعتبار حال المنظوم بعضه من بعض. يقول عبد القاهر:" فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظة، و إذا استحقت المزية و الشرف استحقت ذلك في ذاتها و على انفرادها، دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلف بها الحال، و لكانت إما أن تحسن أبدا أو لا تحسن أبد". و لذلك لا بد لكل كلام تحسنه، و لفظ تستجيده:" من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة و علة معقولة، و أن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، و على صحة ما ادعيناه من ذلك دليل، و هو باب من العلم، إذا أنت فتحته أطلعت منه على فوائد جليلة و معاني شريفة، و رأينا له أثرا في الدين عظيما و فائدة جسيمة
و من أجل هذا يجب أن ينظر إلى اللفظة قبل دخولها في التأليف و قبل أن تصبح جزءا من الصورة التي يكون فيها الكلام إخبارا و أمرا و نهيا أو وصفا:" ذلك أن الأمر على ما قلناه من أن اللفظ تبع للمعنى في النظم، و أن الكلم تترتب في النطق بسبب ترتيب معانيها في النفس.أي لا نظم في الكلم و لا ترتيب في الكلمات إلا وفقا لما هو عليه المعنى حتى يعلق بعضها ببعض و تبنى إحداها على الأخرى، و تجعل هذه بسبب من تلك.
و يرجع الاستحسان في اللفظ وحده دون اشتراك مزايا المعني فيه، من كون هذا الاستحسان سببا من أسبابه و دواعيه يكاد ألا يعدو نمطا واحدا. و هو أن يكون اللفظ مما تعارف عله الناس في زمانهم و تداولته ألسنتهم، و ألا يكون وحشيا غريبا أو عاميا سخيفا بعيدا عن موضوع اللغة.
إن صفة الفصاحة بالنسبة إلى اللفظ  صفة مكتسبة من المعاني و ذلك عندما تكون اللفظة منظومة داخل نظم التعبير،" إن الفصاحة تكون في المعنى أن المزية التي من أجلها استحق اللفظ الوصف بأنه فصيح عائد في الحقيقة إلى معناه. و لو قيل: إنها تكون فيه دون معناه لكان إذا قلنا في اللفظة: إنها فصيحة، أن تكون تلك الفصاحة واجبة لها بكل حال، و معلوم أن الأمر بخلاف ذلك، فإنا نرى اللفظة تكون في غاية الفصاحة في موضع، و نراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع و ليس فيها من الفصاحة قليل و لا كثير، و إنما كان كذلك لأن المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأننا هذا بأنه فصيح، مزية تحدث من بعد أن لا تكون، وتظهر في الكلم من بعد أن يدخلها النظم، و هذا شيء إن أنت طلبته فيها و قد جئت بها أفرادا لم ترم فيها نظما و لم تحدث لها تأليفا طلبت محالا". ويضيف قائلا:" وجملة الأمر ، أنا لا نوجب الفصاحة للفظ مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي فيه، و لكنا نوجبها لها موصولة بغيرها، و معلقا معناها بمعنى ما يليها".
و مما أخذ على عبد القاهر الجرجاني في قضية اللفظ و المعنى أنه أغفل الجانب الصوتي من اللفظ، و أكد هذه القضية سيد قطب في كتابه( التصوير الفني في القرآن). بقوله:" و مع أننا نختلف مع عبد القاهر في كثير مما تحويه نظريته هذه بسبب إغفاله التام لقيمة اللفظ أو صوته مفردا أو مجتمعا، و هو ما يخبرنا عنه بالإيقاع الموسيقي، كما يغفل الظلال الفنية في أحيان كثيرة، و لها عندنا قيمة كبرى في العمل الفني، مع هذا فإننا نعجب باستطاعته أن يقرر نظرية هامة كهذه، عليها الطابع العلمي، دون أن يخل بنفاذ حسه الفني في كثير من مواضع الكتابة".إن اللفظ المفرد لا يكتسب معنى محددا، و لا يفيد فائدة خاصة إلا إذا أدى وظيفة في سياق ما. فالألفاظ تستمد دلالتها من علاقاتها بالكلمات السابقة لها أو اللاحقة بها، و بما يمكن أن تكتسبه في مكانها التي وضعت فيه من إضافات جديدة، ومن ثم كانت الكلمة المفردة مجرد  إشارة إلى الصورة الباردة للشيء، أما الكلمة المستخدمة في سياق فهي شحنة من العواطف الإنسانية و الصور الذهنية و المشاعر الحية إلى جانب ما فيها من معنى عقلي مجرد.
و سبيل المعاني كسبيل الأصباغ التي تعمل منها الصورة و النقش و النحت، و لا معنى للتصوير و النقش و النحت بدون إيحاءات، فالأشكال المنحوتة تعبر عما فيها من لمسات فنية تنبض بالواقعية و الجمال، و كذلك هو حال النظم الذي يتواصفه الفصحاء    و البلغاء، يعبر بما فيه من مقومات متكاملة لشدة الصلة بين اللفظ و المعنى و حسن أداء الدلالة، لأنها عملية تمثل وجودا متكاملا بعيدا عن الجزئية. يقول عبد القاهر:" ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة و النقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير و التدبر في أنفس الأصباغ و في مواقعها و مقاديرها و كيفية مزجه له و ترتيبه إياه إلى ما لم يتهدى إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، و صورته أغرب، كذلك حال الشاعر و الشاعر في توخيهما معاني النحو و وجوهه التي علمت أنها محصول النظم". و من خاصية توخي معاني النحو أن تتخذ أجزاء الكلام في بناء محكم لا اعوجاج فيه، بناء متماسك بجميع صفوفه و أركانه بحيث تبقى النظرة كلية، تجمعه روابط الوحدة العضوية، يبرز فيه التناسق العام بجميع جهاته.
" و اعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر، و يغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت أن تتخذ أجزاء الكلام، و يدخل بعضها في بعض، و يشتد ارتباط ثان منها بأول، و أن يحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعا واحدا، و أن يكون حالك فيها حال الباني، يضع بيمينه ههنا في حال ما يضع بيساره هناك".
فلولا التناسق و الإبداع في الرصف لما كان هناك جمال للمبنى، ولولا حسن الصنعة و الابتكار في المعاني لما كان هناك حسن نظم، فالإعجاب للمشهد الكلي قادم من مقوماته المتممة لبعضها البعض. ذلك هو حال النظم في شكله و مضمونه و في إطاره العام." و اعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه الحسن كالأجزاء من الصبغ تتلاحق و ينضم بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين… و منه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، و يأتيك منه ما يلائم العين غرابة حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفصل، و موضعه من الحذف، و تشهد له بفضل المنة و طول الباع".
يضع عبد القهر الجرجاني قانونا لهذا النظم الجامع للفظ و المعنى؛ ليهتدي به كل من طلب النظم السليم و التعبير الراقي، لإيمانه الشديد بأهمية ارتباط الفكر باللغة، و متانة التحام اللفظ بالمعنى داخل نظم الكلام، و أن المعاني هي الأصل في تفكير عبد القاهر     و نظمه ، بقوله:" و ذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعا للألفاظ في ترتيبها، لكان محالا أن تتغير المعاني، و الألفاظ بحالها لم تزل على ترتيبها، فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغير من غير أن تتغير الألفاظ و تزول عن أماكنها، علمنا أن الألفاظ هي التابعة          و المعاني هي المتبوعة ".
" إن غاية ما يسعى إليه عبد القاهر من نظريته هو الوصول بتعبيراتنا اللغوية إلى مستوى رفيع؛ ليأتي التعبير عن المعاني مساوي الحقيقة الراسخة في نفس السامع          و القارئ و المتكلم، دون زيادة أو نقصان، ودون حاجة إلى اجتهاد في تأويل أو تفسير، بل يجب أن تأتي صور الكلام مساوية المعاني صورة بصورة، حسا وحركة  و حيوية     و لونا و مفهوما دون ملابسة". و يبدي عبد القاهر رأيه في هذه المزية اللغوية بقوله:"  و اعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضرب من الكلام إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة، من غير أن تغير من لفظه شيئا. أو تحول كلمة عن مكانها إلى مكان آخر، و هو الذي وسع مجال التأويل        و التفسير، حتى صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر، و يفسرون البيت الواحد عدة تفاسير، و هو على ذلك الطريق المذلة التي ورط كثيرا من الناس في الهلكة، و هو مما يعلم به العاقل شدة الحاجة إلى هذا العلم، و ينكشف معه عوار الجاهل به".
" و أي تبدل في التفكير يجب أن يتبعه تبديل في الكلام زيادة أو أكثر، و أي اضطراب في الفكر يتبعه اضطراب في تركيب الكلام، و يبدل من صورة حقيقة المعاني، فتبديل المعاني من موضع إلى آخر ومن مجال على مجال يتبعه لا محالة تبدل بالألفاظ؛ لأن الألفاظ تتبع المعاني في كل تغير كبير أو صغير". فالألفاظ إذن أردية للمعاني و أوان لها توضع فيها و تنتقل بها من موضع إلى آخر، فالتلازم و التلاحم بينهما شيء حتمي، كما هو الأمر في حالة السوائل الموضوعة في الأواني المستطرقة، إلا أن المعاني بالنسبة إلى الألفاظ تكون أشد التحاما من التحام السوائل في أوانيها.
لم يعد هناك شك في أن المعاني هي الأصل عند عبد القاهر في كل عملية نظم،    و الألفاظ تتبع المعاني، لأن الألفاظ صورة صوتية تحمل المعاني و رموز تحركها داخل الذهن، من أجل هذا ظنها البعض أنها الأصل في عملية التعبير، فالألفاظ المسموعة       و الموجهة نحو المخاطب تحمل في طياتها المعني المطلوب إيصالها إلى السامع، فتحل في نفسه و فكره بعد سماعه للألفاظ. و أن هذه الألفاظ كانت مرتبة في نفس المتكلم حسب المعاني المرتبة في ذاته و ذهنه، وفق الارتباط المتين بين اللغة و الفكر. و يقول عبد القاهر:" فإن قيل: النظم موجود في الألفاظ على كل حال، و لا سبيل إلى أن يعقل الترتيب الذي تزعمه في المعاني ما لم تنظم الألفاظ و لم ترتبها على الوجه الخاص، قبل… أن تنظر، أن تفكر، أن تتصور، أن تكون مفكرا معتبرا في حال اللفظ مع اللفظ حتى تضعه بجنبه أو قبله… و اعلم أن ما ترى أنه لا بد منه من ترتيب الألفاظ و تواليها على النظم الخاص ليس هو الذي طلبته بالفكر ولكنه شيء يقع بسبب الأول ضرورة من حيث إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني؛ فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها. واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك أن لا نظم في الكلم و لا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض و يبنى بعضها على بعض، و تجعل هذه بسبب من تلك. هذا ما لا يجهله عاقل."
يعتبر عبد القاهر الجرجاني في نظريته اللغوية من أنصار الصلة  و اللالتحام بين اللفظ و معناه و عدم إمكانية الفصل بينهما بفاصل، و أن الصلة وثيقة و قوية بين الفكر    و اللغة، و أن عملية الفكر اللغوي هذه تتم في آن واحد، فالكاتب حينما يكتب رسالة أو رواية، و الشاعر حين ينظم قصيدة لا يفكر في الألفاظ و لا يطلبها بأي حال من الأحوال، بل يطلب المعنى فتجيء ألفاظه حسبما طلبه من معان، و ذلك يعني أن عملية التفكير بالمعاني سابقة لعملية التفكير باللفظ. يقول عبد القاهر في هذا الصدد:" أن تعرف للفظ موضعا من غير أن تعرف معناه، و لا تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا        و نظما، و أنك تتوخى الترتيب في المعاني، و تعمل الفكرة هناك، فإذا تم لك ذلك أتبعتها الألفاظ، و قفوت بها آثارها، و أنك إذا فرغت من عملية ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني       و تابعة لها و لاحقة بها، و العلم بموقع المعاني في النفس علم بموقع الألفاظ الدالة عليها في النطق.

المحور الثاني: القيمة العلمية لنظرية النظم:

1- التصوير الفني
يعتبر عبد القاهر التصوير الفني في العبارة القرآنية قيمة عظيمة لا تعادلها قيمة في نظم العبارات و تراكيب الكلام، موضحا الوسائل و الأساليب التي تجعل الصورة حسنة مقبولة في نظم العبارة اللغوية عند العرب. حيث اهتم بمسألة التصوير الفني اهتمام المبدع و الفنان في الرسم و الموسيقى و النحت و الصناعة و النقش و النسج و الألوان لإدراكه أهمية هذه القضية، بعيدا عن مسايرة السابقين من السلف في تشبيه نظم الكلام بغيره من الفنون. و نتيجة إحساسه المرهف نجده يقارن صياغة الكلام بصياغة المعادن النفيسة، و نسج الكلام بنسج الحرير، و تنظيم النظم بالتصوير المبدع بقوله:" و معلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير و الصياغة، و أن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سيل الشيء الذي يقع التصوير و الصوغ فيه كالفضة و الذهب يصاغ منها خاتم أو سوار."
فسبيل المعاني كسبيل الأصبغة و الأحجار الملونة التي نعمل منها الصورة         و النقش، و لا معنى للنقش و التصوير بدون إيحاءات، و تحسن الصورة بما تملك من مقومات فنية، و يرى النقش بما فيه من إبداع، و جودة صياغة ألوانها و أشكالها من رقة الإحساس بالترابط العضوي بين الألوان و الصورة و فيما عبرت عنه لتمثل جميعا، وجودا متكاملا خلقته الألفاظ بانسجامها مع المعاني، لذلك:" ترى الرجل قد اهتدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة و النقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير       و التدبر في أنفس الأصباغ و في مواقعها و مقاديرها و كيفية مزجه له و ترتيبه إياه إلى ما لم  يهتد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب و صورته أغرب، كذلك حال الشاعر و الشاعر في توخيهما معاني النحو و وجوهه التي علمت أنها محصول النظم." فحسن صياغة الألوان و الأصباغ و النقش و حسن إيداعه في أماكنها كحسن استخدام المعاني و إبرازها في نظم في التعبير.
" و عبد القاهر في تقريره للصورة و التصوير الذي أفاض عنه الكلام قد أبرز قيمة التصوير الفني في نظم العبارة، و أن هذا التصوير يكمن في ترتيب الألفاظ حسب ترتيب المعاني في النفس مع التأليف بينها في صورة مزدهرة للأديب يبتكرها و يقصد إليها و تكبر قيمة التصوير الفني عند عبد القاهر من اهتمامه بالصياغة و بالمعنى، و أن دور الألفاظ في هذا المجال ليست أردية و ألوانا فحسب تكسو المعاني و تجللها بحلة رائعة، بل تمثل الصورة بألوانها و ملامحها التي أرادها صاحب النظم بنظمه."
" ويمكن أن نضيف لهذه الظاهرة الفنية ظواهر أخرى أسهمت إلى حد بعيد في إبراز القيمة العلمية لنظرية النظم عند عبد القاهر ، فمن هذه الظواهر، ظاهرة الإيقاع الموسيقي الناشئة من تخير الألفاظ و نظمها في نسق خاص، و هي أوضح ما تكون في الأسلوب القرآني و عميقة كل العمق في بنائه الفني، ثم ظاهرة التناسق الفني في التعبير مع المعاني النحوية و البلاغية، و الفصاحة مع التناسق النفسي في ترتيب المعاني في النفس الإنسانية، و الذي تنبه إليه الكثيرون، ثم تكلم عن التناسق في الانتقال من غرض إلى غرض من أجل الوصول إلى أعلى درجات التناسق الفني المتوافر في آيات القرآن الكريم".
2- المعاني الثانوية و حسن الدلالة
" و إن قد عرفت هذه الجملة فقد حصل لنا منها أن المفسر يكون له دلالتان، دلالة اللفظ على المعنى، و دلالة المعنى الذي دار اللفظ عليه على معنى لفظ آخر، و لا يكون للتفسير دلالة واحدة و هي دلالة اللفظ، و لا يكون هذا الذي ذكرت أنه سبب فضل المفسر على التفسير من كون الدلالة في المفسر دلالة معنى على معنى، و في التفسير دلالة لفظ على معنى حتى يكون للفظ المفسر معنى معلوم يعرفه السامع و هو غير معنى لفظ التفسير في نفسه و حقيقته". و يقصد بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ و الذي تصل إليه بغير واسطة أو وسيلة أو بمعنى المعنى، و على السامع أن يعقل من اللفظ معنى معينا، ثم يفضي به ذلك المعنى إلى معنى آخر يعقله السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانيا هو الغرض.
و يشير عبد القاهر الجرجاني إلى أهمية دلالة الألفاظ و دلالتها المعنوية بصورة خاصة فيقول:" و كذلك إذا جعل المعنى يتصور من أجل اللفظ بصورة، و يبدو في هيئة، و يتشكل بشكل يرجع المعنى في ذلك كله إلى الدلالات المعنوية، و لا يصلح شيء منه حيث الكلام على ظاهره و حيث لا يكون كناية و تمثيلا به و لا استعارة و لا استعانة في الجملة بمعنى على معنى. و تكون الدلالة على الغرض من مجرد اللفظ."
إن الارتباط شديد بين اللفظ و المعنى، و تقوم الألفاظ بدور هام بكل ما تملك من مقومات خلال تعبير معين بدلالتها لتؤدي دورها في خدمة المعنى، و قد يتعرض التركيب اللغوي إلى نوع من العلل التي تصيب المعني؛ فتظهر بصورة يختلف فيها اثنان في التأويل و التفسير و الذي يطلبه عبد القاهر من الدلالة اللفظية أن تؤدي دورها في نقل الصورة السمعية إلى فكر السمع بقدر ما في نفس المتكلم من معان مترتبة في ذاته، فإن أقل تشويه في بناء الدلالة يتبعه تشويه في الصورة. يقول عبد القاهر:" فأما إذا تغير النظم فلا بد من أن يتغير المعنى على ما مضى من البيان."
يريد عبد القاهر أن يصل بالنظم إلى درجة الرقي و الكمال، بجعل الألفاظ في مواضعها داخل التعبير اللغوي لتأتي المعاني على حقيقتها دون زيادة أو نقصان، و هي نظرية الترابط التي ينادي بها  رجال الفكر و الفلسفة، و هي الرمزية الجمالية التي يعالجها أو يعترف بها اللغوي الأوربي و العربي في العصر الحديث، من أجل هذا كانت نظرية النظم ذات قيمة علمية في مجال البحث اللغوي. يقول عبد القاهر:" و اعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضرب من الكلام إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة، من غير أن تغير من لفظه شيئا، أو تحول كلمة من مكانها إلى مكان آخر، وهو الذي وسع مجال التأويل و التفسير، حتى صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين."
يقول عبد القاهر:" و ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه و أصوله، و تعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل عنها بشيء منها." و يقصد عبد القاهر من هذه القيم المعاني الإضافية التي يصورها علم النحو دون الهدف إلى موضعة الفاعل أو المفعول مثلا، إنما الهدف من ذلك الإشارة إلى وجهيهما في نظم صحيح معين، لأن مزية النظم متكاملة تفوق كل المزايا الجمالية، و عبد القاهر باعتباره نحويا بارعا يرفض أن تقتصر مهمة النحو على صحة التركيب من الناحية الإعرابية.
يقول عبد القاهر:" هذا، و أمر النظم في أنه ليس شيئا غير توخي معاني النحو فيما بين الكلام، و أنك ترتب المعاني أولا في نفسك ثم تحذو على ترتيبها الألفاظ في نطقك،   و أنا لو فرضنا أن تخلو الألفاظ من المعاني لم يتصور أن يجب فيها نظم و ترتيب في غاية القوة و الظهور". ويضيف قائلا:" و لا يكون الضم ضما و لا الموقع موقعا حتى يكون قد توخى  فيها معاني النحو، و أنك إن عمدت إلى الألفاظ، فجعلت تتبع بعضها من غير أن تتوخى فيها معاني النحو، لم تكن صنعت شيئا تدعي به مؤلفا".
إن الفصاحة صفة في اللفظ، صفة تدرك بالسمع، معقولة يدركها الذوق، لكنها صفة مرحلية، نرى اللفظة فصيحة في موضع و غير فصيحة في مواضع أخرى، و هي صفة مكتسبة من المعاني. يقول عبد القاهر:" لا تخلو الفصاحة من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تدرك بالسمع، أو أن تكون صفة معقولة تعرف بالقلب. فمحال أن تكون صفة في اللفظ محسوسة؛ لأنها لو كانت كذلك لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم في كونه فصيحا".
إن الفصاحة هذه صفة للكلام من أجل مزية باللفظ ذاته مجردة عن المعنى، و هي أمور لا تخفى على من يملك المعرفة و مقدرة التمييز للأشياء، لأن المعاني الحاصلة من مجموع الكلام هي أدلة على الأغراض و المقاصد. ثم إن الفصاحة:" تكون في المعنى،   و إن المزية التي من أجلها استحق اللفظ الوصف بأنه فصيح عائدة في الحقيقة إلى معناه، و لو قيل: إنها تكون فيه دون معناه، لكان ينبغي إذا قلنا في اللفظة: إنها فصيحة، أن تكون تلك الفصاحة واجبة لها في كل حال، و معلوم أن الأمر بخلاف ذلك".
فإن كان الجاحظ قد وضع معايير للفظ المفرد، من تخير و سهولة بالمخرج و كثرة ماء وصحة طبع و جودة سبك و بعد عن التنافر، فإن عبد القاهر قد أنكر تلك المميزات في فصاحة اللفظ عائدة للمعنى، و أن هذه الفصاحة لا تظهر إلا بعد أن نعد جملة من القول لإبراز تلك الدقائق و الأسرار و بأننا لا يمكن بحال من الأحوال أن نقدم اللفظ على المعنى م حيث فصاحة لفظه وفي هذا السياق يقول عبد القاهر:" و جملة الأمر أنا لا نوجب الفصاحة للفظ مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي فيه، و لكننا نوجبها لها موصولة بغيرها، و معلقا معناها بمعنى ما يليها، إن غرضنا من قولنا: أن الفصاحة تكون في المعنى أن المزية التي من أجلها استحق اللفظ الوصف بأنه فصيح، عائد في الحقيقة إلى معناه، و لو قيل: إنها تكون فيه دون معناه لكان ينبغي إذا قلنا في اللفظة: إنها فصيحة، أن تكون تلك الفصاحة واجبة لها بكل حال. و معلوم أن الأمر بخلاف ذلك".


هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

ماهي المصدر والمراجع للفظ والمعنى التي استخدمتها ؟؟
ياليت تفيدني

ريمه الخاني يقول...

حقيقة لا يوجد منهجية واضحة للنقد العربي ,ذلك لان النقاد العرب انقسموا لقسمين ,غما انطباعيين في نقدهم او مقتبسين من اطلاعهم, فقد كان العصر العباسي نموذجا للنقد العربي الانطباعي والذي كان يصف الشاعر إما بأشعر الشعراء, أو يبحث عن الهنات والزلات, حتى لقد كان ذو طابع شخصي بعض الشيء يتأثر بعلاقة الناقد بالنقود شخصا قبل ان يكون عملا.
يقول الدكتور إحسان النص: في معالجته لقضية :محنة النقد العربي المعاصر :(كتاب قضايا ومواقف)
لقد ظل طابع النقد العربي قائما على الذائقة او فساد المعنى سائدا لدى العرب طوال عصور الازدهار الحضاري, ومن امثلة كتاب: الوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني ,وكتاب الموازنة بين الطائيين , للآمدي, وهذا النقد لم يبرأ من الخصومات الشخصية والمواقف المنحازة, ثم ما لبثت شعلة النقد العربي الناضج أن انطفأت في العصور اللاحقة, واول من أسس نظرية نقدية شاملة من النقاد والبلاغيين العرب هو :عبد القاهر الجرجاني ت 418 هـ الذي وضع نظرية النظم التي تتناول الشعر والنثر وكان دافعه إلى وضع هذه النظرية بيان إعجاز القرآن ,فألف كتابيه المشهورين:
دلائل الإعجاز , و" أسرار البلاغة" ,لكن النقاد في العصر الحديث انقادوا للنظريات الغربية الوافدة ,وكأنها آيات منزلة لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من ورائها, وقد توزعتهم النظريات والمذاهب النقدية ,لذا نجد أن النقد العربي كهوية ضائع في متاهة لا تستبين مسالكها ويعاني مرضا عسير الشفاء.
********
وإذن فهل محنة النقد العربي المعاصر هذه لا تنحسر إلا إذا اتفق النقاد العرب على منهجية واحدة؟, وهل جهودهم مبعثرة فعلا في شتى المجالات كذلك كالعلم العروض ,ومنهجية الابحاث؟, أم نعتبرها اجتهادا عاما قد نجعله شاملا لو اخذنا من كل منهج حسناته؟.
الأديبة ريمه الخاني

د محمد عمارة يتحدث عن: موقف الإسلاميين من الغرب وأسباب ظاهرة الإسلاموفوبيا ..

تعرف على قصة قلم الرصاص

المتابعون